صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه


هند أبو الشعر تكتب : قصص القاهرة

أخبار الأدب

السبت، 11 مارس 2023 - 01:29 م

رياح الخماسين الساخنة

جمعت كتبها المدرسية المبعثرة، وضعتها على المنضدة، ووقفت تعقد الزنار، ضمته بشدة فأحست بضغط أنفاسها المتلاحقة، تعرف أنه يراقبها، كان هناك عند زاوية الباب، بعينيه النهمتين، وثياب نومه الواسعة يحكّ رأسه، ويتلصص عبر فتحات الباب، نفس الهيئة البشعة التى فاجأتها فى ذلك المساء الحارق، وريح الخماسين تذرّ الغبار فى الأزقة وعلى أسطح الدور.

الفطور جاهز.

صوت أمها المثقل بهموم عائلية لا تنتهي، يكرر العبارة نفسها كل صباح ، وزوجها هناك، يحاصر الممر بعينيه النهمتين، وثياب نومه الواسعة، ودخان سجائره الرخيص، حملت كتبها، زاوية الباب تسمح لسحابة من الدخان بالتلصص، تنسل إلى غرفتها، تحسها تتسرب إلى أنفها، وتضغط على أنفاسها المتلاحقة، وتدفعها إلى الغثيان، تطلعت إلى المرآة للمرة الأخيرة، سمعت صوت أمها برنته الصباحية المعتادة يزعق.

الفطور جاهز.. لا تذهبى إلى المدرسة دون أن تتناولى شيئاً.

« زوجك ما زال هناك يحاصرنى مثل كلب صيد مدرب.. سنوات الطفولة التى سرقها منى تعتب عليك يا أمي.. تطل من ملامحى الخائفة وأنت تغرقين فى المطبخ والسوق المسقوف البعيد» وقالت بعجلة وهى تغلق الباب خلفها.

لقد تأخرت عن المدرسة.. ورأته يتحرك نحوها، امتد ظله فجأة وخيم على المكان.. تسارعت دقات قلبها وتدفق الدم فى عروقها برعب حاد.. قال أخيراً بعد أن جلس على الكرسى القديم بتثاقل:

بنتك دائما عنيدة.. لا فائدة من اللطف معها!

لا بد وأن نظراته تنصب عليها وهى تسرع إلى الباب الخارجى المفضى إلى الزقاق، تحسها تركض خلفها كل صباح مثل كلب صيد مدرب جشع، يلاحق الأرانب الصغيرة البيضاء، ويقبضها من أعناقها المتدفقة بالحرارة والخوف.. الأزقة الصغيرة تملؤها طبقة تراب ناعم.

ريح الخماسين ما زالت تسلب المدينة هدوءها، وتعصف ببقايا أوراق ونفايات، والخوف الكبير زوبعة تثور فى عروقها.. زوج أمها هناك بثياب نومه الواسعة يتلصص من زاوية الباب ويسدّ عليها المنافذ.. « لماذا لا تصدقين يا أمي..؟

هذا الرجل يحاصرنى ويخطف الأمن والهدوء من مساحات جسدى الخائف.. عندما قلت لك فى لحظة صفاء دافئة أننى أخافه، كنت أريدك أن تفهمي.. قلتِ لى والخوف يهز صوتك الغريب المقتول أنه مكان أبي.. لمحت الألم المرتعش فى رفيف رموشك الكثيفة.. أنت ترفضين سماع أى شيء.. أى شيء يفقدك هذا الرجل».

رياح الخماسين تعصف، ومدينة ( الزرقاء ) غائمة بالحزن، أزقتها المتداخلة وبيوتها المتراصة تستكين أمام العواصف التى تزوبع محملة برمال جافة وساخنة.. (.. كنت أقرأ رواية جديدة فى غرفتى وريح الخماسين تعصف،.

وذلك المساء الساخن الجاف يسعل الغبار فى المدينة المثقلة بهموم الناس.. كانت الزوبعة تنشر بقايا نفايات فى الأزقة، وكنتِ يا أمى بعيدة مثل المسافات.. قريبة مثل الحلم.. صرت فى ذلك المساء كتلة خوف ترتعش خلاياى ويختنق اللون فيها.. وظلت ريح الخماسين تنفث الغبار وتشير الزوابع الغاضبة.. وأنت بعيدة كالمسافات.. غارقة فى المدينة التى تكبر مع هموم الناس فيها.. تكبر تكبر، وتظل تكبر..).

الزرقاء.. عمان.. عمان.. عمان.

أصوات المنادين تعلو وتخفت مع الريح، والزوبعة تتلوى فى الشارع الكبير، رأت الناس يتدافعون نحو السيارات المتراصة.. عمال.. موظفون تثقلهم الهموم.. هذه المدينة المثقلة بهموم الناس غائمة هذا اليوم، تستكين أمام هبوب الريح المثقل برمال الصحراء الساخنة.. أحست الجفاف يلدغ وجهها.

و«سيجيء المساء.. ويجيء زوجها عند المساء بوجهه المحتقن، وثياب نومه الواسعة، سيتلصص عبر فتحة الباب، وسأنكمش بخوف مثل أرنب تطارده كلاب صيد مدربة قوية، وأنتِ يا أمى يرعبك دبيب فكرة الفقدان فى خلايا دماغك.. تخافيننى بصمت.. تخشين النظر إلى أعماق عينى المذعورتين، وتغرقين فى المطبخ.. بعيدة أنتِ كالمسافات.. كالحلم.. بعيدة وخائفة».

الزرقاء.. عمان.. عمان.. عمان.

وما زالت الزوبعة مثل أفعى مجنونة تتلوى، وبقايا النفايات تركض معها إلى كل مكان، والمدينة المثقلة بهموم الناس كبيرة وغائمة.. قبضت بشدة على النقود فى كفها، وضاعفت من الضغط على الجلد المجعد فى أطراف حقيبتها، اندفعت مع العمال والموظفين الذين يهرولون إلى الحافلة الكبيرة، وبقايا الزوبعة المجنونة تذر الرمال فى العيون، وتختفى أخيراً فى الشارع الكبير.. كانت عجلات الحافلة تندفع على المساحات الإسفلتية، والمدينة المثقلة بهموم الناس تبتعد وراء المسافات المغبرة، في منتصف العمر

صباح خريفى.

تأفف بملل، أزاح الغطاء عن جسده ورآها، كانت تقف فى منتصف الغرفة وتحمل الصينية إياها، وظلال شجرة التوت المشرئبة من النافذة تتعقبها، استوى جالساً وتناول فنجان القهوة بلا قابلية، استدارت وهى تتراجع نحو المطبخ، تعقبتها ظلال شجرة التوت العتيقة، اختفت تماما، جلس، وجلس معه نهار خريفى لا طعم له.

احتجّ بمرارة: القهوة مُرّة!

أطلت برأسها، كانت بعيدة عن ظلال شجرة التوت، سألته باستنكار:

وماذا فى ذلك؟

أقول لك القهوة مرة!

صحيح، لا تنس أن السكرى لديك مرتفع..

ليرتفع كيفما شاء.. أريد قهوة الصباح حلوة!

استدارت، والصباح الخريفى الباكر يملأ الأرجاء.

المرآة:

غسل وجهه، جعل الماء بين يديه يتدفق وينسكب بعيداً عن أصابعه، تطلع إلى المرآة، بقايا قطرات تعلق بذقنه، والشعر النابت يميل إلى البياض، انتفض، لسعته الفكرة، أحس بماء الشباب يهرب، والبقايا تعلق بذقنه، راقب القطرات تسقط بهدوء عن ذقنه، لم يجففها وفكر بوهلة بها.. هي.. دائماً هي.. ارتفع صوتها فجأة من زاوية قريبة:

الفطور جاهز.

أغلق صنبور الماء، وما زالت بقايا القطرات تعلق بذقنه.

دقات الساعة المتلاحقة.

نواجها، جلست أمامه تماما، كانت حركاتها سريعة تشبه دقات الساعة المتلاحقة، سكبت الشاي، وحركت الأشياء البعيدة نحوه، تجاهلها وفتح الصحيفة باهتمام، سمع صوتها ترشف الشاى بمتعة، فأحس يغضب يدفع الدم فى عروقه، حرك الصفحات بعصبية، وحاول قراءة العناوين، قالت وهى تضع فنجان الشاى الفارغ أمامها:

الوقت يسبقك!

أمسكت السكين واقتطعت من الرغيف مساحة كبيرة، رفع رأسه عن الصحيفة، كانت مشغولة بإعداد شرائح الجبن، عرف أنها تعد له وجبته اليومية، قال فجأة باقتضاب:

لا أريد طعاما.

توقفت أصابعها عن الحركة، لم ترفع رأسها، راقب أصابعها تعود إلى الحركة بآلية عجيبة، وضعت الشرائح فى قلب الرغيف، قربت الصحن نحوه وهى تتطلع إلى ساعتها بأطراف عينيها، أعادت بصوتها اليومى السريع عباراتها الدائمة:

الوقت يسبقك.

يعرف ذلك ويكرهه ويكره أن يخبره أحد بذلك وتحديدا هي.. لماذا لا تكف عن التذكير بالوقت..؟ لماذا..؟ ألا يتشاركان معا فى الوقت..؟

واجهها، تطلع إلى وجهها وتفحصها بغضب، امرأة فى منتصف العمر، تصبغ شعرها الذى غزاه الشيب، وتجتهد بوضع ألوان تخفى بها الخطوط التى بدأت تملأ ملامحها.. قال بجفاف وهو يتحسس آثار قطرة الماء العالقة بذقنه.

أعرف ذلك، لكننى لن أذهب إلى المكتب اليوم.

وتطلعت باستنكار، لم تعلق، قرأت مشاعره كلها بلمحة عين، استقرت نظراتها الأخيرة على الشعر النابت على ذقنه، قالت وهى تتناول حقيبتها:

- سألحق بالباص، يكاد الوقت يسبقني، اتصل بى إن احتجت شيئا.

انسحبت، تعقبتها ظلال شجرة التوت العتيقة، سمع خطواتها العجلى تسابق الوقت، والخريف الصباحى يتمدد حوله.

 أسلاك شائكة

أحنّ دائما إلى الجانب الآخر من هذا السهل الأخضر، أتطلع عبر الأسلاك الشائكة إلى شقائق النعمان المتمايلة بين سنابله، ولا أدرى لماذا يساورنى إحساس غامض بأن غناء طيور هذا الجانب من السهل أقل جمالا من غناء طيور الجانب الآخر، أقف بمحاذاة الأسلاك الشائكة وأمد رأسى الصغيرة نحو الخط الثالث منها، وأفكر فى المسألة بجدية:

- رقبتى طويلة، وأنا نحيلة، لا شيء يمنعنى من اجتياز هذه الأسلاك الشائكة..

أتذكر صراخ أمى عندما تجدنى أقف بجانب الأسلاك الشائكة، وكيف تخشى على ثيابى من أن تمزقها الأسلاك الشائكة.. كلما خرجت من البيت أتذكر نبرتها التعليمية الدائمة:

- ابتعدى عن الأسلاك الشائكة لئلا يتمزق ثوبك.. مفهوم..؟

أهزّ رأسى علامة الموافقة، وأذهب إلى الأسلاك الشائكة!

أجرّب مرات، تنغرز الأطراف المعدنية البشعة بأطراف أصابعى فأرتبك.. أتركها، وأتابع رنينها المعدنى وهى تعود بصلابة وعناد إلى موقعها.. أحس بأن هذه الأسلاك الطويلة تفصل قلبى إلى جزءين، وتنغرز فى بؤبؤ عيني، وتمنعنى من متابعة العصافير الصغيرة، أحب العصافير بشكل مجنون، أخاطر بعمرى من اجل أن أمسك بها، أتأمل ريشها اللامع تحت أشعة الشمس النيسانية الدافئة، أما الفراشات المغرورة التى تتحدانى بألوانها، فقد بدأت أكرهها عندما أخبرتنا معلمة العلوم بأنها ليست أكثر من دودة نسجت شرنقة حول نفسها وتحولت إلى فراشة.

ريش أصفر طري.

ألمحه فجأة، بجناحيه الصغيرين ورأسه الخائفة، يركض مذعورا أمامها، كانت تتحرك بحذر وخفة وحقارة، كرهتها عندما رأيت التماع العينين الزرقاوين الوحشيتين بنشوة، وتأكدت بحدسى الطفولى بأن العصفور الصغير سيقع بين أنيابها الحادة، تماماً كما فعلت من قبل.

وأن ريشه الأصفر الطرى سيبقى فى أرض الموقعة، ويتطاير مع زوبعة ريح غبية، وأن صراخه الطفولى الممزق سيبتلعه الكون الواسع القاسي.. قطة لعينة.. لعينة لا تعرف الرحمة..لعينة!

ولم أستطع أن أمنع نفسى من محاولة إنقاذه، ركضت، لم يعرنى أى منهما انتباهه، واستمر الصراع من أجل الحياة.. تسللت القطة الحذرة بخفة عجيبة بين الأسلاك.. كان العصفور يرفرف ويقدر على الارتفاع قدرا ضئيلا، ثم يسقط أمامها من جديد، لم يعد امامى خيار غير إنقاذه وعبور الأسلاك.

واندفعت، أمسكت السلك الثالث، أشواكه اللعينة كثيرة، أكثر مما توقعت، ومتقاربة وقاسية.. لا أدرى كيف اندفعت قوة عجيبة إلى أصابع طفولتي، اندفع السلك بقدر أكبر، وقدرت أن رأسى ستعبر بسهولة من خلاله، صح توقعي، فدسست رأسى ونسيت صوت أمى ومخاوفها على ثيابي.

وتأكدت بأن رقبتى طويلة، مددتها بقوة، وأخذت أدفع نفسى باتجاه السلك وقد تعلقت ساقاى بالهواء، وتذكرت فجأة الغزال الذى رأيته عالقا ذات يوم فى نفس هذا الموقع، فارتعدت.. كانت الأشواك اللعينة تنغرز برقبته ببشاعة والدم القانى ينز ويسقط على الأوراق الخضراء.. ظل الغزال يقاوم والنزف يزداد.

وكنا كلنا حوله، أطفال لا نقدر على شيء غير الصراخ.. توقفت قربه وتطلعت إلى عينيه، كان الرعب يتحرك فى عمق العينين، وكانت الأقدام الرشيقة الدقيقة مجنونة تتحرك فى الهواء وتتقافز فى كل اتجاه.. ظل قاوم فيزداد انغراز الأشواك المعدنية برقبته أكثر، ويزداد النزف.. ما زالت صرخاته الصغيرة المتتابعة تتقطع حولى وتبعث فى مفاصلى الخوف..

وضربتنى رعدة كهربائية مجنونة.. هل علقت مثل الغزال الصغير..؟ هل سأموت مثله..؟ يا إلهي.. أتذكر الآن وفى هذه اللحظة الثقيلة التى تدق فى قلبى وشرايينى كلها ومسامات جسمي، وصوتى يدوى ويصل آخر الكون، أتذكر العم حسن وهو يفك الغزال من بين الأسلاك، ويجره من قوائمه الرشيقة بين الحشائش، وأتذكر كيف ركضت بانفعال مع كل الأطفال حول الغزال الميت، ورطوبة الحشائش تندفع إلى قدمى بكثافة.. أحرك جسدى فى كل اتجاه، وأحس بأن الأشواك المعدنية اللعينة تمسك بى بقوة، لقد قبضت على رقبتي.. أقاوم.

وأحاول أن أفتح السلك الشائك، تمتلئ أصابعى بالدم.. أحس برعب مجنون، ينطبق السلك الشائك على رقبتى أكثر بعد أن عجزت عن توسيع مداه.. كان رنين الشوكات المعدنية مخيفا وهو يتخلل حنجرتي.. بدأت أتابع الدم القانى ينزّ، وصرخات صغيرة متتابعة تتقطع فى الكون القاسى الوسيع..

وبكيت بحرقة، انفجرت بالصراخ، عندما رأيت القطة اللعينة تعبر الأسلاك بخفة، وقد تطاير الريش الاصفر الطرى فى الهواء.. ازداد صراخى وزوبعة ريح غبية تهب بحياد تام، وتعبث ببقايا الريش الأصفر الميت.

مظلة

وبدأت تمطر فجأة، أحست أنها وحيدة، امتد الرصيف أمامها إلى ما نهاية مثل خط العمر، فارتعشت، ورفعت حقيبة يدها الصغيرة إلى رأسها تتقى المطر، ابتل شعرها، أحست بالثياب تلتصق بجسدها خائفة ومقرورة، عرفت أنها بحاجة إلى مظلة.. تطلعت حولها.. لا أحد غير سيول صغيرة معكرة تمر بين أقدامها بخطوط مسرعة.

متى يأتى الباص..؟ متى يا رب..؟

وأحست خطوات تقترب، كان طويلا وبيده مظلة سوداء لكنها متينة، نقرت حبات المطر حقيبة يدها بقوة أكبر، تجرأت واقتربت منه، توقفت نظراتها على حذائها المبلول، ارتجفت واختطفت نظرة فاحصة إلى رفيقها ، اليد التى تحمل المظلة كبيرة، وأصابعها واثقة، والرصيف خال وبارد.

وتطلع إليها، رآها وحيدة والرصيف مقفر، وحبات المطر تضربها بشدة، نحيلة وصامتة، تمنى لو تقترب منه، لو تطلب منه أن يخبئها معه، هذه الوحدة تغلف روحه، والضباب يعزله عن عالم الناس.. أحس بأن المظلة تحجبه، حركها باتجاه بعيد، وتقدم من المرأة، قال بصوت متقطع.

مرحبا.

والتقت العيون، دق قلبه بجنون، كان للمرأة عيون حزينة وواسعة تشعل عالم الروح، سمعها تقول بصوت مقرور وخائف.

مرحبا.

هزت رأسها، واقتربت من المظلة، انتشرت أنفاسها فى المساحة القريبة منه، تسرب الدفء إلى عظامها وهى تهزّ ثوبها، وتمسح يدها، قال بهدوء.

هذا المطر لا يتوقف والشوارع غدت مجنونة.. لا أحب المطر أبداً.

وارتعش شغاف قلبها، كان صوته رخيما ودافئا فيه حنين شاعر نزق يملؤه الضجر، قالت بصوت حميم.

إنى أحبه.. يغسل الأعماق الغائرة ويبلل العروق الجافة!

وحرك المظلة إلى الاتجاه الآخر، وانتابه إحساس غامر بأنها تستعير صوت جنية أسطورية، تهبط فجأة من عالم الحلم، وتتسلل إلى قلبه، وعندما فتح فمه، كان ضجيج الباص العام يصم الروح، ويقتل وجيب القلب.. انسلت بسرعة، شكرته بصوت دافئ، وتركت وراءها نظرة عميقة وحزينة، وبقايا عطر انتشر فى المساحة التى تشغلها المظلة.

وانسل الفرح من قلبه، أغلق المظلة وأحس بالفقدان.. سار بخطوات غاضبة إلى الرصيف الآخر، وعطر المرأة الغريبة يلف الكون كله، ظل المطر يغسل شواطئ أعماقه الغائرة، ويفيض متدفقا، يبلل عروقه الجافة، ويهزّ شغاف الروح.

السفر

ووضعت الحقيبة على الرصيف ووقفت أنتظر، لاحت سيارة الأجرة من بعيد، تهيأت وتفقدت جواز السفر فى جيبي، توقفت السيارة وأطل وجه ( الموت)، كان عاديا، فتيا وله شارب حالك السواد، قلت بانفعال، إلى المطار من فضلك.

تفضلي.

وكان صوت (الموت ) رخيما، أعترف أننى أعجبت به، ترجل (الموت)، كان مديدا وأنيقا، حمل حقيبتى ووشعها فى الصندوق الخلفي، كانت حقيبتى مثل التابوت، مغلقة من كل الجوانب ومليئة بالذكريات، فتح لى الباب بأدب، فجلست فى المقعد الخلفي، وتهيأت للرحلة.. وقلت بنبرة اجتهدت أن أجعلها عادية.

لا وقت لديَّ.. أريد أقصى سرعة لديك.. أخشى أن تفوتنى الطائرة.. وهزّ (الموت) رأسه فقط، لم يتطلع إليَّ، أضفت وقلبى يدق بشدة: هل يمكنك أن توصلنى قبل الساعة الخامسة..؟

لم يستدر، قال بصوت جميل ومليء بالثقة:

اطمئنى يا سيدتي..!

وتأكدت بأننى عقدت صفقة معه، ارتاحت عضلات وجهى وتطلعت من النافذة إلى البعيد، تأكد (الموت) من إحكام حزام الأمان، وأضاف بأدب.

سآخذ الطريق الصحراوي، هل لديك مانع يا سيدتي..؟

دق قلبى بجنون، وتطلعت إلى المسافات المتلاطمة خلفي، قلت وأنا أحاول التشبث بالمقعد:

لا.. لا مانع لديَّ.. تهمنى السرعة.. اقصى سرعة لديك!

وتأكدت بعد ثوان قليلة بأن (للموت) ذوقا جميلا فى الموسيقى، فقد اختار لحنا جميلا أحبه «لحن الرجوع الأخير» أعجبنى منظر المسافات الإسفلتية المجنونة وهى تهرب بلا توقف.. تابعتها وصوت الهواء يصفر من خلال النافذة بغضب، ويطغى على صوت العداد المقيت بحركته الروتينية.

وكأنه يعدّ الأيام.. لا، لا.. بل الدقائق الهاربة.. لا، لا.. ربما الدقائق المتبقية، لا.. لا ربما الثوانى المتبقية.. تابعت التطلع إلى المسافات المجنونة الهاربة، داهمنى الدوار، وتأكدت بأن عداد السرعة وصل النهاية، ركزت نظراتى على رأس (الموت).. كان يكبر ويكبر ويكبر بلا توقف، حتى ما عدت أرى سواه.

اقرأ ايضاً | طارق حنفى يكتب: الثقب الأسود

نقلا عن مجلة الادب : 

2023-3-11


الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 

مشاركة